25 أبريل 2024 00:50 15 شوال 1445
بوابة الكلمة رئيس التحرير محمد خضر
مقالات

أحمد سليم يكتب: حكايات السبعينى (١)

الكاتب أحمد سليم
الكاتب أحمد سليم

في أوائل الثمانينيات انتهى الأسبوع الأول من العمل فى جريدة "شباب بلادى" والتى كانت تصدر عن دار مايو. حصيلة السبعينى من المعارف زادت وولدت صداقات جديدة استمر بعضها عشرات السنوات. بعد أسابيع عرف السبعينى طريقه إلى وسط البلد. القاهرة الخديوية والتى تبعد مسافات قليلة وتتداخل أحيانًا مع القاهرة المملوكية والفاطمية. كبيرة القاهرة بتاريخها وناسها بحكاياتها وبسحر اماكنها.

إلى وسط البلد كانت الصحبة تضم عمر الصعيدى وعبد الحميد جاد ويوسف سعداوى لينضم لها بعد ذلك المبدع عاطف حزين البورسعيدى، والقاطن أيامها فى أحد فنادق وسط البلد والذى تنبأ له الأستاذ عبد الفتاح الديب بمستقبل صحفى رائع، ووقف المرض اللعين حائلاً بينه وبين تحقيق أمنية أستاذه وحلمه الشخصى. كانت الخطوات الأولى لوسط البلد إلى مقهى التكعيبة مجموعة كراسى بسيطة وعدد محدود من الطاولات خلف مبنى، أو قصر قديم، تظللها شجرة أو تكعيبة. ظلت التكعيبة هى هدف السبعينى فى وسط البلد لتضم شلة التكعيبة، فى مرحلة النصف الثانى من الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات، شلة جديدة من الأصدقاء: سيد زهران وزكريا خضر ومحمد طلبة وخالد محمود ومحمود الحضرى وكثيرون. كانت التكعيبة ملتقى جيل الصحفيين الذين جاءوا من الأقاليم وانضموا إلى الصحف الحزبية المنتشرة فى هذا الوقت ما بين "الأهالى" و"الشعب" و"الوفد" و"الأحرار" و"مايو". رغم اختلاف توجهات صحفهم الحزبية كانت نقاط التلاقى بين الزملاء كثيرة وزادت روابط الصداقة بينهم.

كانت مجموعة التكعيبة تنتهى من العمل فى صحفهم القريبة من وسط البلد ليجتمعوا فى المقهى حول صينية تمتلئ بأطباق كشرى أبو طارق وبعد انضمامهم إلى مكاتب الصحف العربية امتلأت أطباق الصينية بكباب وكفتة وطرب أبوطارق.

كان عد الصحفيين قليلاً وأغلبهم من الأقاليم وكانوا فى الغالب يعملون في صحف قومية أو حزبية ثم مكاتب عربية، وكانوا مجموعات، كل مجموعة تعمل كفريق يقوده أحد الإعلاميين الكبار من جيل السبعينات، أو الذين عملوا فى نهاية الستينات، وما بين التكعيبة التى كانت شاهدة على فترة مهمة إلى أتيليه القاهرة المواجه لجريدة "الأهالى" ومقهى المنظر الجميل القريب من "الأحرار" ثم سوق الحميدية والحرية وأحيانًا جروبى طلعت حرب أو أمريكين سليمان واللذان كانا شاهدين على مولد قصص حب بين هذا الجيل من الصحفيين.

وسط البلد لم يكن فقط التكعيبة والمنظر الجميل ولكن كان هناك أيضًا مقهى ريش، مقهى الكُتاب ميسورى الحال وبعض المثقفين العرب فى أثناء زيارتهم للقاهرة، وبالقرب منه كان ملتقى المثقفين الغلابة من الشباب كتابًا أو شعراء يلتقون على مقهى البستان.

على مقهى ريش كانت المناقشات الفكرية ذات اللقاءات الثنائية الهادئة، وعلى طاولات أنيقة عليها القهوة السدة وبعض أنواع السيجار، وعلى مقهى البستان كان شباب المثقفين وخناقاتهم حول الحداثة والبنيوية ومصطلحات جديدة، وما بين ريش والبستان والجريون وافترايت دارت حياة أجيال من المثقفين والكتاب والنقاد، وقدمت مقاهى وسط البلد العشرات منهم وهم يحتاجون إلى كتب كثيرة تحكى عنهم ثلاثة أجيال تزامل وعاش معها السبعينى عشرين عامًا منذ وصوله إلى القاهرة فى الثمانينات وحتى أوائل الألفية الجديدة.

وكان من حظ السبعينى أن يكون مركز عمله الرئيسى فى مبنى الحزب الوطنى بالكورنيش أو هيئة الكتاب بالكورنيش قريبين من وسط البلد، وكان زملاؤه وأصدقاؤه سواء فى عمله الحكومى أو عمله فى صحف عربية، الكل كانت مقهى وسط البلد تجمعهم، فمن شارع مراد حيث "الشرق" و"الوطن" القطريين. أو من المهندسين حيث كانت صحف ومجلات "الشرق الأوسط" و"المسلمون" و"الرياضية" و"القبس" و"السياسة".. كان الكل يأتى إلى وسط البلد لينضم الصحفيون إلى الشعراء والكتاب والنقاد القادمين من قصور الثقافة وهيئة الكتاب لتتحول نقاهة وسط البلد بمن عليها من صحفيين ونقاد وكتاب وشعراء إلى أكبر منتدى مفتوح للصحافة والأدب.

وكانت مقاهى وسط البلد تستوعب الكل بمختلف أفكارهم وبمختلف قدراتهم الإبداعية والمادية، فهناك من يملك جنيهات قليلة يستطيع بها أن يتناول سندوتشات الفول والطعمية والكشرى وفنجان القاهرة، وربما تتحول المقهى أحيانًا إلى مقر للمبيت، وهناك من كان يملك جنيهات أكثر فيستطيع أن يذهب إلى أسماك الجمهورية أو الحاتى، وهناك من لا يملك سوى ثمن كأس من النوع الردئ، وهناك من يملك ثمن زجاجات غالية من أنواع أخرى من الشراب.

كان وسط القاهرة ملتقى الجميع وعلى مقاهيه ولدت أفكار أهم الإبداعات لأجيال الثمانينيات والتسعينيات.

ولم يكن وسط البلد يمثل لأجيالنا المقاهى والمطاعم فقط بل لعب أتيليه القاهرة دورًا مهمًا فى الحياة الثقافية، ولعبت مقارنات الأحزاب ما بين الناصرى والتجمع والأحرار والوفد والوطن دورًا آخر فى الحياة السياسية وأيضًا كانت محلات وسط القاهرة أشيك وأغلى، وأيضًا أرخص محلات الملابس والأحذية.. ففى وسط البلد كنا نأكل ونشرب ونسهر ونتثقف ونتناقش ونختار ملابسنا.

وسط البلد كان هو الحياة.

أحمد سليم حكايات السبعينى الثمانينيات وسط البلد شباب بلادى الشرق الأوسط موقع الكلمة