29 مارس 2024 12:10 19 رمضان 1445
بوابة الكلمة رئيس التحرير محمد خضر
مقالات

أحمد سليم يكتب: خبز أمى وفجر مسجدى

بوابة الكلمة

أبناء الخمسينيات والستينيات فى القرى تحديدًا وبعض المدن عاشوا عصر الكتاب وتعلموا على يدى شيخ الكتاب.. وأغلبهم عرف الفَلَكة وقليل ممن رحمهم ربى أفلتوا من العصا الخيرزان أو جريدة الشيخ .. هذه الأجيال التى قدمت زويل ومجدى يعقوب والكثير من العمل والقادة والسياسيين.. تعلموا على لوح الاردواز والقلم البوص وحفظوا القرآن أو أجزاء منه وتعلموا بدايات الحساب على يدى مشايخ الكتاب.

فى قريتنا الصغيرة – شبراقاص – بالغربية مرت مجموعة كبيرة من أبناء القرية على كُتاب الشيخ المغاورى والشيخ سليم ومنهم من وصل إلى عمادة الكليات أو مساعدين لوزراء فى وزارات سيادية، ومنهم من اكتفى بتعليم الكُتاب وسلك دروبًا أخرى، ولكن فى كل الحالات ستظل الكتاتيب مرحلة مهمة فى التعليم تمهد لدخول المدرسة الابتدائية الوحيدة بالقرية.. فى الكتاب تعلمنا احترام الأستاذ، وكان خوفنا واحترامنا لشيخنا الكفيف يعادل الخوف والاحترام للأستاذ فى المدرسة.. لم يكن يرى الشيخ تلاميذه فى الكتاب وكان بإمكانهم اللهو ومعاكسته والهروب من عصاه، ولكن الدافع لاحترام المعلم وما غرسته الأسرة فى نفوس الأبناء من ضرورة احترام الفقيه كان السبب فى احترام وتقدير الشيخ.. ومن مرحلة الكتاب إلى المدرسة الابتدائية، والتى كانت فى أول القرية واستقبلنا فيها الشيخ فهيم عامر رحمة الله عليه، وكان من دفعتنا الكثير من وصلوا الى مراتب الاستاذية فى الجامعات أو مناصب قيادية، ومنذ اليوم الأول غرس فينا الشيخ حب القراءة، كان رحمه الله شيخًا أزهريًا معممًا، ولكنه كان يحكى لنا القصص ويدفعنا إلى حصة القراءة وغرفة الموسيقى وإلى حصة الألعاب.. كما يحرص على أن نحفظ الشعر ونتعلم الحساب ومبادئ العلوم.. كان المدرس شاملاً وكانت حصة القراءة مهمة، وكان العقاب على عدم التركيز فى حفظ الشعر أو فهم القصص أكثر قسوة من العقاب على عدم تعلم الحساب والعلوم .. كان لدينا حوش كبير للمدرسة نمارس فيه الرياضة، وكان طابور الصباح فرصة للتنافس بيننا فى المعرفة والمسابقة والإبداع، كانت هناك جماعة الخطابة وفرقة الموسيقى ومجموعة الرياضة .. و كان لنا فى كل فصل مكتبة صغيرة نكونها من مصروفنا الضئيل ومن مساهمات استاذنا، بالاضافة إلى حجرة كبيرة تضم مكتبة المدرسة.. موسيقى ومسرح ومكتبة ورياضة وفناء كبير فى مدرسة بقرية صغيرة بالدلتا يضاف إلى ذلك وجبة للطلاب ورعاية صحية وحكيمة تمر على الطلاب ومشرفة تتأكد من نظافة الاظافر والملابس .. هذا كان فى المدرسة الابتدائية واستمر طول دراستى، وكانت المدرسة كذلك قبل أن أنتمى لطلابها وبعد أن تركتها .. مرت عشرات السنوات وعدت مرة وانا فى قريتى ودفعنى الشوق الى دخول المدرسة .. تاكل الفناء واكتفى طابور الصباح بتحية العلم والتوجه الى الفصول، ولم اجد المكتبة ولا حجرات الفنون ولا الموسيقى ولا جماعات الخطابة والفن، ولكن كانت هناك مسابقات فقط لتحفيظ القران الكريم ولم اجد الفتيات الصغيرات بأزياء مبهجة، ولكننى فوجئت بالحجاب يغطى رؤوس طالبات الصف الاول الابتدائى .. لم اجد فيها ريحا من مدرستى القديمة، فقط وجدت حجرة للحاسب الالى لا يدخلها الا المحظوظون .. ولم يكن ذلك هو المتغير الوحيد فى قريتى، فعندما ذهبت الى مركز الشباب لأجد مبنى جميلا به صالات للجيم وكمال الاجسام ولعب الكاراتيه .. وانزوت مكتبته فى جزء صغير ، وايضا كانت المسابقات مسابقات ثقافية دينية، لم يفكر أحدهم فى أن يعلم النشء شيئا عن الدستور والحياة السياسية والفكرية وعن وضع مصر حاليا وسابقا.. وتذكرت مركز الشباب فى الستينات .. كنا فى منزل مبنى بالطوب اللبن , وكانت به كتب قيمة على ارفف من الخشب، وكان كبارنا يعلموننا الرياضة والثقافة ربما بشكل ليس ممنهجا، ولكننا كنا نجد لديهم اجابات عن اسئلة كثيرة، وتعلمنا منهم الحركة الكشفية التى كادت تختفى من حياتنا او انشطة الاندية والجامعات.

قريتى فى زمانها السابق كان بها المسجد الكبير والمسجد الصغير ومسجد الزاوية، وكانت القرية تكتفى جميعها فى صلوات فجر رمضان او الجمعة، نتقابل ونسأل عمن غاب ونزور من مرض، احيانا نزور من توفى ونقرأ له الفاتحة، وكانت دروس العصر او المغرب او فى الصباح للسيدات فرصة لتعلم الدين والفقه فى العبادات .. رأيت فى قريتى الجديدة اكثر من عشرة مساجد لا يكتمل فيها صفوف حتى صلاة الجمعة، لم يعد يكتمل مسجد واصبحت المسابقة بين ميكروفونات المساجد اكبر واهم من المسابقة فى فكر الأئمة والمشايخ .. واقترح هنا على الصديق الفاضل الدكتور مختار جمعة وزير الاوقاف، وهو يعمل على تجديد الخطاب الدينى وتحديث المساجد ان يمنع صلاة الجمعة فى القرى الا فى مساجد كبيرة، وان يقصرها على مسجد او مسجدين ليعيد للمسجد لقب الجامع الذى يجمع القرية ويتيح الفرصة ليلتقى ابناؤها معا .. وان يلحق بها مراكز لتعليم وتحفيظ القران بدلا من الكتاب القديم وان يعيد للمسجد دوره الجامع بأن يكون مدرسة ومسجدا، وان يرتقى بمستوى الأئمة والخطباء، قريتى التى تغيرت الى الاحدث وإن لم يكن إلى الافضل أصبح بها عشرة مقاه على شط ترعتها الصغيرة تستقبل شباب القرية وآخرين حتى الصباح .. وبعد أن كنا نرى فى الصباح الباكر او المساء سيدات يجمعن بيض الدجاج او الالبان للتجارة فيها .. رأيت التكاتك وهى تحمل المخدرات توزعها خفية او جهرة على الشباب وعلى بعد امتار من نقطة الشرطة .. قريتى التى كنت اذهب اليها لأعود انا وابناء القرية الاخرون مساء كل جمعة محملين بالقشطة والخبز ولحوم الطيور لتطل طوال الاسبوع او الاسبوعين تعيش على خيرات القرية اصبح من الصعب ان تجد رغيفا من خبز القرية القديم واختفت القرية المنتجة لتحل محلها قرية مستهلكة تأكل من المدينة لا تعرف مشروعاتها الصغيرة ولكنها تمتلك محلات كثيرة تبيع فيها منتجا صينيا او تركيا .

قريتى الصغيرة التى كنت أعشق السهر على شاطئ ترعتها وأذهب للصيد بها وأتغزل فى ليلها .. أصبحت جزءاً من مدينة غير مبهجة أو مسخًا لمدينة، فلا هى أصبحت المدينة ولا عادت القرية التى كنا نحبها .. اعيدوا إليّ قريتى وخبز أمى وراحة النفس فى صلاة الفجر بمسجدى وروعة رمضان التى فقدتها القرية ولمة أبناء القرية.