28 مارس 2024 11:26 18 رمضان 1445
بوابة الكلمة رئيس التحرير محمد خضر
مقالات

جماعة الدم

عبدالناصر محمد يكتب: قراصنة الإرهاب أرادوا اغتيال عبدالحليم موسى .. ولكن الله منح الشهادة للمحجوب

بوابة الكلمة

فى تمام الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الأحد الثانى من سبتمبر سنة ١٩٩٠ كان علاء محيى الدين المتحدث الرسمى باسم الجماعة الإسلامية متوجهاً على قدميه إلى منزله فى شارع ترسا بمنطقة الطالبية بالهرم .. فجأة اعترضته سيارة بدون لوحة أرقام أمطره أحد ركابها بوابل من الرصاص فسقط صريعاً فى الحال وإستولى الجناة على ما كان بحوزته من أوراق قبل أن يتركوا جثته الهامدة ويفروا هاربين من مكان الواقعة ..أهالى المنطقة تجمعوا وأبلغوا الشرطة وتم نقل الجثمان إلى مستشفى أم المصريين.

مساء نفس اليوم تلقى المحامى منتصر الزيات المعروف بإنتمائه وتأييده التام للجماعات الإسلامية المتشددة إتصالاً من أحد أبرز قيادات الجماعة الإسلامية التى كانت تنتهج منهج العنف والدم وهو صفوت عبدالغنى والذى كان هارباً فى هذه الفترة من قرار اعتقال حيث قال له أنه وصلته أخبار عن اغتيال علاء محيى الدين وأمره بالتوجه إلى مستشفى أم المصريين للتأكد من الأمر.

على الفور نفذ الزيات الأمر وتوجه نحو المستشفى وكان بصحبته محامى آخر يدعى إبراهيم علام وكانت تربطه بالزيات علاقة نسب وتم الإتصال أيضاً بالمحامى سامح عاشور وكان آنذاك عضواً فى مجلس نقابة المحامين وهو أحد أقارب المجنى عليه وبالفعل تم التأكد من أن القتيل هو علاء محيى الدين المتحدث الرسمى باسم الجماعة الإسلامية وتم إنهاء الإجراءات وتسلم الجثمان ودفنه وسط هتافات معادية للنظام ولوزارة الداخلية من جانب المشيعين.

لحظة تأمل

على الفور أشارت أصابع الاتهام من جانب أباطرة التطرف إلى تورط أجهزة الأمن فى مقتل محيى الدين وقرروا الإنتقام .. ولكن قبل الخوض فى تفاصيل هذا الإنتقام نود أن نقدم لمحة عن فكر علاء محيى الدين المتحدث الرسمى باسم الجماعة الإسلامية وسوف يعرف القارىٔ من هم الجناة الحقيقيون الذين قتلوا هذا الرجل وألصقوا التهمة لأجهزة الأمن ليكون ذلك ذريعة للإرهاب وحمل السلاح وتوجيهه نحو صدور كل من يعترض طريقهم الدموى المشبوه.

علاء محيى الدين هو أحد أبناء مركز ساقلته التابع لمحافظة سوهاج ينتمى لأسرة يعرف عنها الإستقامة والإعتدال تخرج من كلية الطب وعمل بالفعل طبيباً وكان خطيباً بارعاً .. خلال الثمانينات من القرن الماضى إنضم للجماعة الإسلامية وترك سوهاج وتوجه للقاهرة وذاع صيته فى الخطابة واعتلى العديد من المنابر فى كثير من المناطق خاصة عين شمس والمطرية ونظراً لانه بارع فى الخطابة وقع عليه الإختيار ليكون المتحدث الرسمى باسم الجماعة الإسلامية.

كان يُعرف محيى الدين منذ نشأته وحتى إغتياله أنه يجنح للسلم ويرفض العمل المسلح ولديه قناعة تامة بأن العمل الحزبى والسياسى هو أفضل من العمل السرى ويرى أنه الأصلح لتطبيق مشروع الدولة الإسلامية فى مصر بعيداً عن المواجهات الدموية وحمل السلاح .. وذكرت الدكتورة سلوى محمد العوا فى كتابها " الجماعة الإسلامية المسلحة فى مصر " ص ١٣٢ " لقد كان نشاط علاء محيى الدين محصوراً فى القسم الإعلامى وكان دائما يعلن رفضه للتوجه العسكرى " .. وقد عبر محيى الدين عن قناعته تلك فى مقالات عديدة تم نشرها على صفحات جريدة الشعب الناطقة بلسان حزب العمل وفى معظم خطبه ولأنه خطيب مفوه فقد استمال العديد إلى وجهة نظره فى العمل.

آراؤه المستنيرة هذه بالطبع لم تكن على هوى قراصنة الإرهاب العطشى لإراقة الدماء ولم تعجب أغلبية العناصر المتشددة المنتمية لتلك الجماعة المتطرفة .. ورجل بهذه الآراء المعتدلة هل منطقى أن يمثل خطورة على الأمن وأن تعتبره الأجهزة إرهابياً وتقوم بتصفيته وهى التى لم تمنعه من إعتلاء المنابر ؟!.

تهديد ووعيد

بعد الاغتيال بأيام أصدرت الجماعة الإسلامية بياناً عنوانه " .. ومضى عهد الكلام " .. وكما يقولون " الجواب يبان من عنوانه " فهذا البيان ما هو إلا تهديد ووعيد صريح لأجهزة الدولة بشكل عام بالإنتقام وأخذ الثأر ولم يفكر أحد من أتباع قادة تلك الجماعة فى الأمر جيداً ولم يتساءلوا عن الجناة الحقيقيين ولم يسأل أحد منهم عن أن أجهزة الأمن لو كانت ترغب فى قتل محيى الدين فهل كان سيناريو الإغتيال بهذه الطريقة الساذجة ؟! .. ولكن هذا هو مبدأ السمع والطاعة وإلغاء العقل الذى غرسه الإرهابى الأعظم حسن البنا فى نفوس كل من ينتمى لجماعات الدم والإرهاب.

ونستطيع أن نجزم بأن أباطرة الدم هم من قتلوا علاء محيى الدين لأنه لا يجب أن يكون بينهم عنصر يجنح للسلم وليس طبيعياً أن يكون المتحدث الرسمى باسم الجماعة الإسلامية ممن يدعون لترك السلاح ولا يفضل المواجهات الدموية .. نعم قتلوه واتخذوا من مقتله ذريعة لقتل عناصر أمنية ولإغتيال شخصيات ورموز وطنية ولإستباحة دماء الأبرياء من أبناء مصر الأوفياء.

الجريمة

كالعادة رفع سافكو الدماء شعار الإنتقام بالباطل ووضعوا خطة لاغتيال وزير الداخلية آنذاك وهو اللواء محمد عبدالحليم موسى ورصدوا تحركاته جيداً وحدّدوا موعد تنفيذ الجريمة وهو صباح يوم جمعة الذى يتمتع دائماً بسيولة مرورية حتى يسهل لهم الهرب بعد تنفيذ الجريمة.

وقع الاختيار على ٤ عناصر مدربة على هذا النوع من الإرهاب المسلح اثنان يقودان دراجتين ناريتين والآخران يحملان أسلحة آلية وفى جعبتهما كميات هائلة من الطلقات.

وقع الاختيار على يوم الجمعة الموافق ١٢ أكتوبر سنة ١٩٩٠ لتنفيذ المخطط المشبوه .. عقارب الساعة تشير إلى العاشرة و٤٥ دقيقة صباحاً كانت مصر على موعد مع واحدة من أبشع جرائم الإغتيال .. يقف الإرهابيون الأربعة بكل خسة على ناصية شارع كورنيش النيل بالقرب من ميدان التحرير .. أسلحتهم على أهبة الإستعداد لإصطياد الضحايا الأبرياء .. موكب مكون من دراجة بخارية يقودها أحد الحراس .. سيارة فارهة تبدو من هيئتها بأن بداخلها شخصية سياسية مهمة .. سيارة أخرى من الواضح أنها سيارة حراسة لهذه الشخصية المرموقة .. الموكب يقترب من شارع كورنيش النيل .. بنادق الجناة جاهزة لإزهاق الأرواح .. لُعاب كل إرهابى يسيل على القتل وسفك الدماء .. مركبات الموكب تهدىء من سرعتها حتى تنحرف فى إتجاه شارع كورنيش النيل وأمام فندق " سميراميس " .. فتح الجناة النار على من كان فى الموكب ثم ترجلوا لحصار السيارتين وأطلقوا وابل من الطلقات بلا رحمة وبلا هوادة .. أحد الجناة كان تركيزه على من يجلس خلف سائق السيارة الفارهة وهو بالطبع الشخصية السياسية المهمة فأمطرها برصاصات الغدر.. فر الجناة بعد أن نفذوا جريمتهم الوضيعة بكل أريحية وسارت الدراجتين عكس الإتجاه غير أن أحد الجناة لم يتمكن من ركوب الدراجة فأستوقف تاكسى بعد أن أشهر سلاحه فى وجه السائق وهنا طاردهُ العميد عادل سليم من مباحث القاهرة غير أن الإرهابى فتح النار عليه وقتله فى الحال ونزل من التاكسى وإختفى بعد دخوله المول التجارى بفندق " هيلتون رمسيس ".

ارتكب الجناة مجزرة إنسانية لا مثيل لها ظانين أنهم قتلوا اللواء محمد عبدالحليم موسى وزير الداخلية والذى غير خط سيره بالمصادفة فى هذا اليوم ولتتحقق مشيئة المولى عز وجل بأن ينال شرف الشهادة الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب إبن مصر البار الرجل الوطنى الأصيل إبن واحدة من مدن مصر العظيمة وهى مدينة الزرقا التابعة لمحافظة دمياط.

قرابة ٤٢٠ رصاصة أطلقها الجناة على موكب الدكتور رفعت المحجوب .. كان نصيب المحجوب منها ثمانون طلقة .. تحمل جسده الطاهر ثمانين طلقة .. تخيلوا مدى الدموية والوحشية التى عليها هؤلاء الخونة المجرمين .. وفى هذه الجريمة نال الشهادة أيضاً كل من الحارس الشخصى للمحجوب وهو المقدم عمر سعد الشربينى والسائق كمال عبدالمطلب وموظف بمجلس الشعب يدعى عبدالعال على رمضان.

ما عظمة تلك الشهادة الدكتور رفعت المحجوب خرج من منزله متوضئاً ليقابل وفدا برلمانيا سوريا فى فندق " ميريديان " جاهزاً لأداء صلاة الجمعة مع الضيوف لم يمنعه من الصلاة سوى رصاصات الإرهاب التى إخترقت جسده النحيل ولكن صلاته ومعه رفقاء الشهادة كانت بجوار ربه فى جنة الخلد بإذن الله.

توضيح واجب

ردد البعض بكل سذاجة أن وراء قتل المحجوب نظام مبارك بحجة أن الرجل _ أى المحجوب _ كان اشتراكياً ويرفض سياسة بيع القطاع العام التى قررتها الحكومة .. والغريب أن من تبنى هذا الرأى لم يسأل نفسه عن عدد المرات التى إنتقد فيها المحجوب قرارات الحكومة منذ أن عينه الرئيس مبارك رئيساً لمجلس الشعب عام ١٩٧٥ .. ثم هل هذا الإنتقاد سبباً لإقدام النظام على إنهاء حياة الرجل الذى كان عضواً فى الحزب الوطنى وكان رجل دولة وهو ثانى أكبر رجل فى الدولة بعد الرئيس من الناحية السياسية .. أعتقد أن هذا الأمر لا يخرج عن كونه " كلام فارغ " .. وأيضاً ما رددته أسرة المحجوب عن أن بعض مسئولى نظام مبارك منعوهم من الكلام فى قضية الإغتيال فى هذه الأثناء فأود أن أقول عن أى حديث منعوهم .. ماذا كان يعرف أولاد المحجوب وهم فى سن صغيرة وقت وقوع الحادث يحرج النظام أو يفضحه فأعتقد أن أولاده كانوا يركبون موجة الهجوم على مبارك خاصة وأن تصريحاتهم هذه أدلوا بها عقب أحداث يناير .. ألم يعرف هؤلاء الذين يرغبون أن يبرأوا ساحة الإرهاب أن من وُجهت لهم تهمة قتل المحجوب بما فيهم قائد الإرهاب صفوت عبدالغنى صاحوا فى المحكمة التى تنظر تلك القضية التى عُرفت بمرافعة القرن وهتفوا قائلين .. " يا علاء يا محيى الدين .. خدنا بتارك من الظالمين " !! .. ألم يكن هذا اعترافاً بأنهم قتلوا الرجل كما أن تصريحات قادة الجماعة عقب اكتشاف قتل المحجوب بدلاً من عبدالحليم موسى لم تُبد أى أسف بل قالوا أنه من رجال النظام فلسنا نادمين بل وقالوا أن اسمه كان قوائم الاغتيالات !!.

عقب الجريمة البشعة خرجت كل وسائل الإعلام وأيضاً شهود العيان يؤكدون أن الجناة ليسوا مصريين بل هم عرب وأغلب الظن أنهم عراقيون وأنهم تعمدوا قتل المحجوب لإنه ببساطة انتقد الغزو العراقى للكويت والذى كان قبل هذه الواقعة بقرابة شهرين .. وهذا الرأى مثير للضحك والسخرية لإن مصر كلها حكومة وشعب بل وكل شعوب ومسئولى العالم إنتقدوا هذا الغزو آنذاك ولم يكن المحجوب فقط هو من إنتقد الغزو .. أما شهود العيان فلم يكن أحد منهم إقترب من الجناة ليسمع لكنتهم أو لهجتهم " هذا لو كانوا خبراء فى تحديد اللكنات " .. فالكل فى هذه الأثناء جَبُن وإختبأ خوفاً من أن تطوله رصاصة طائشة حتى الجانى الوحيد الذى لم يلحق بباقى فريق الدم وإستوقف تاكسى فلم ينبس بكلمة واحدة مع السائق تدل على أنه غير مصرى .. فضلاً عن أن هناك العديد من الطلاب العرب الذين يتعلمون فى مصر متأثرون بأفكار زعماء التطرف ومخدوعين بإسم الدين مثل العديد من شباب مصر ، وقد يكون من بين الجناة أو جميعهم من جنسيات عربية غير مصرية .. وبغض النظر عن هذه المهاترات فإن هذا الأسلوب الدموى هو أسلوب تلك الجماعات الملعونة ويكفى أن قائد الإرهاب صفوت عبدالغنى إعترف وهو مزهواً بنفسه و بكل فخر واعتزاز فى أحد البرامح بعد صعود الخونة إلى عرش مصر عام ٢٠١٢ بأنه هو من خطط لاغتيال عبدالحليم موسى ولكنه نجا وراح بدلاً منه رفعت المحجوب !!.