26 أبريل 2024 17:41 17 شوال 1445
بوابة الكلمة رئيس التحرير محمد خضر
مقالات

أحمد سليم يكتب: ذكريات شتوية

بوابة الكلمة

بشائر الشتاء فى قريتى بوسط الدلتا .. كوب الشاى والقلم والأوراق ونظرة إلى زمن قديم هناك فى آخر الحديقة كانت غرف الفرن والخزين .. قاعة الفرن البلدى لا يعرف ماذا سوانا نحن الذين عشنا طفولتنا فى القرية فى الخمسينات والستينات واوائل السبعينا ت .. كانت تعنى لنا مكاناً ننتظر منه العيش السخن بأنواعه الفلاحى والمصري. والحشو بالزبد أو السكر كان يوم الخبيز يومًا ذا مذاق خاص .. البداية المبكرة مع شروق الشمس .. السيدات قسمن أنفسهن بين جالسة أمام الفرن بيدها سيخ الحديد الذى تسحب به الرغيف بعد تسويته.. وخلفها تجلس السيدات حول الطبلية لإعداد العجين وتحويله إلى رغيف نادراً ما يختلف الحجم أو يتمزق الرغيف أثناء إلقائه فى الفرن أو سحبه .. الحطب على مدخل القاعة يسحب إلى المحمى وعلى مقربة يتم إعداد طواجن لحوم وبرام الأرز المعمر وبعض الخضر للشوى مثل البطاطس أو الباذنجان وزيادة فى الكرم فهناك صينية تستعد أيضاً لدخول الفرن بعد انتهاء الخبيز وهدوء النار .. يستمر العمل ساعة أو اثنتين.. وتنتهى المهمة لتتحول القاعة بعد إلى قاعة ساونا بعد تنظيفها وخروج الدخان من الرازونة توضع الحصيرة على ظهر الفرن ويمكنك أن تتخيل هذه الجلسة مع كوب شاى بعد أكلة دسمة .. كنا ننتظر هذه الساعات على مختلف مستوياتنا الاجتماعية فهى نوع من التغيير للأغنياء وحصول أطفالهم على خبز ساخن وجلسة دفا وهى للباقين غنا عن البطاطين والأسرة.. لا تمثل قاعة الفرن متعة نهارية فقط لأبناء القرية ولكنها ليلا وحول المنقد والعشاء الذى كان يمثل للفلاح وجبته الرئيسية، بعد عودته من الحقل ثم المسجد لصلاة العشاء ثم لمة العشا والمنقد بينما يأتى صوت عبد الباسط أو الحصرى والبنا أو مصطفى إسماعيل ثم نشرة الثامنة والنصف لينتهى يوم الشتاء..
أما نهار الشتاء فى الريف .. مازلت أذكر رحلة المدرسة الصباحية ونحن نحمل على ظهورنا شنطة الكتب مستندين على حوائط المنزل خشية الزحلقة فى الطين ومع كل الحرص كنا لا ننجو من الوقوع والعودة حاملين علامات الوقوع مع كم من التنمر بيننا .. ازدادت الصعوبة فى المرحلة الاعدادية عند انتقالنا إلى مدرسة كفر سالم النحال ليطول الطريق إلى حوالى الثلاث كيلو مترات بين الحقول وما بين اغراءات خطف قرون الفول الأخضر أو أعواد الخس إلى ملاحقات من أصحاب الحقول إلى زحلقة يومية على طين الطريق لنصل أو نعود حاملين علامات الوقوع .. وعندما انتقلنا إلى المدينة فى المرحلة الثانوية كان علينا أن نغلف الأحذية بأكياس بلاستيك ننزعها عند ركوب القطار المزدحم صباحاً وحتى لا نلوث ملابس الركاب وغالباً ما كانت الرحلة لا تنتهي إلا بمشاجرة بسبب أن أحد الطلاب قفز من شباك القطار فداس بقدمه على ملابس راكب ..
شتاء الريف زمان كان رغم صعوباته فلا كهرباء ولا دفايات إلا أن ذكرياته مازالت تدفئ قلوبنا
ومازالت شمس الشتاء وأنت جالس فى الحقول تجمع بين البرد والدفء .. بين الشمس الساطعة ورائحة المطر ..
مازلنا فى أول الشتوية هواء بارد خفيف وبدايات لنزلة برد وكوب الشاى وليلة مع أعانى فنان العرب محمد عبده الذى ينقلنى لذكريات شتاء مكى ومدنى كانا لعامين متتاليين من أجمل ما عشت من أيام الشتاء فما أجمل أن تطوف حول الكعبة تحت زخات المطر وكأنها رسالة السماء تغسل بمائها الطهور أجساد الطائفين بينما تغسل دموع التوبة قلوبهم ..أنعم الله عليّ بدعوتين عامين لبيته المعمور فى يناير مرة والأخرى فى فبراير قضيت أياماً منها تحت سيول من المطر وطفنا تحت المطر واحتمينا بالحرم النبوي من المطر وكأن رسول الله يدعو الملايين لبقاء أطول بجواره وكأنه صلى الله عليه وسلم بكرمه يحتوى محبيه ..
وتشاء الأقدار أن يحتفى بنا أصدقاء فى جدة والمدينة بعد انتهاء الزيارة فى جدة يصحبنا الراحل أبوبدر عبد الله الثقفى فى عشاء .. وفى المدينة يصحبنا أخى الحاج أمين سليم بكرمه فى سهرة وكان القاسم بين الليلتين وبين ليلة الأمس هو أغنيات لمحمد عبده .