خطبة الجمعة ”الزارعُ المُجدُّ” توضح دورُ الزراعةِ في التنميةِ الاقتصاديةِ
بوابة الكلمةأشارت وزارة الأوقاف إلى أن خطبة الجمعة اليوم تحت عنوان "الزارعُ المُجدُّ"، وأكد الوزارة على جميع الأئمة الالتزام بموضوع الخطبة نصًّا أو مضمونًا على أقل تقدير، وألا يزيد أداء الخطبة على عشر دقائق للخطبتين الأولى والثانية مراعاة للظروف الراهنة.
وتشير خطبة الجمعة "الزارعُ المُجدُّ" إلى الحثُّ على الزراعةِ في الإسلامِ، موضحة صفاتُ الزارعِ المُجدِّ، ومبينة دورُ الزراعةِ في التنميةِ الاقتصاديةِ
مـــوضــــــــــوعُ الخطبة
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليه وسلم. أمَّا بعدُ:
أولًا: الحثُّ على الزراعةِ في الإسلامِ
لقد حثَّ الإسلامُ على الزراعةِ والاهتمامِ بهَا، وقد تضافرَتْ نصوصُ القرآنِ والسنةِ في الترغيبِ في الزرعِ والغرسِ، ومِن ذلك قولِهِ تعالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ }.( يس: 33-35).وقالَ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }.(الأنعام: 141).وقالَ جلَّ شأنُهُ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ }. ( عبس: 24 – 32).
وبيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ مِن أجلِّ النعمِ اختلافَ الأصنافِ والألوانٍ والأطعمةِ، مع أنَّ الأرضَ واحدةٌ والماءَ واحدٌ. فقالَ سبحانَهُ وتعالى: { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. ( الرعد : 4). وقد وجهَنَا الشارعُ الحكيمُ إلى أنَّ الزارعَ الحقيقيَّ هو اللهُ، والعبدُ عليهِ الحرثُ والبذرُ والأخذُ بالأسبابِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: زَرَعْتُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: حَرَثْتُ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64]»(ابن حبان). وغيرُ ذلك مِن الآياتِ التي تدلُّ على قدرةِ اللهِ تعالى في الزرعِ.
كما حثَّتْ السنةُ النبويةُ المطهرةُ على الزرعِ والغرسِ، حتى جعلتْ قيامَ الساعةِ لا يحولُ بينهُ وبينَ الزرعِ والغرسِ فيقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلم : «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ».[أحمد والبخاري في الأدب المفرد] . والفسيلة هي النخلة الصغيرة.
وقد فهمَ الصحابةُ والمسلمونَ الأوائلُ أهميةَ الزراعةِ، فانطلقُوا مطبقينَ لتعاليمِ الإسلامِ، التي تحثُّ على الزراعةِ، رَغْمَ مشاغلِ بعضهِم الجسيمةِ واستغنائِهِم، فهذا عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ رغمَ غناهُ كان يمسكُ المسحاةَ بيدهِ، ويحولُ بها الماءَ، وطلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ كان أولَ مَن زرعَ القمحَ في مزرعتهِ بالمدينةِ، وكان يزرعُ على عشرينً ناضحًا، وينتجُ ما يكفي أهلَهُ بالمدينةِ سنتَهُم، حتى استغنُوا عمَّا يستوردُ مِن بلادِ الشامِ، وكان أبو هريرةَ يرىَ المروءةَ في تلكَ الأفعالِ، فقد سُئِلَ مرةً: ما المروءةُ؟ فقال: تقوى اللهِ وإصلاحُ الضيعةِ.
وأكثرُ مِن ذلك أنَّ المسلمَ لا يعملُ لنفعِ المجتمعِ الإنسانيِّ فحسب، بل يعملُ لنفعِ الأحياءِ، حتى الحيوانِ والطيرِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم يقولُ: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا؛ أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا؛ فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ”. [متفق عليه]، يقولُ الإمامُ النوويُّ -رحمه اللهُ- " إنَّ هذا الحديثَ يدلُّ على فضيلةِ الزرعِ والغرسِ، وأنَّ أجرَ الزارعِ مستمرٌ ما دامَ زرعُهُ باقيًا ومتناميًا ويُستفادُ منهُ إلى قيامِ الساعةِ".
ولأهميةِ الزراعةِ يسعَى إليها أهلُ الجنةِ وهم في الجنةِ لحبِّهِم إياهَا. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: " أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ، فَكَانَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ ".(البخاري). ففي هذا الحديثِ " يخبرُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلّم عن رجلٍ مِن أهلِ الجنةِ ومتنعمٌ بنعيمِهَا يطلبُ مِن اللهِ تعالى أنْ يزرعَ في أرضِهَا، فيسألُهُ اللهُ تعالى أليسَ لديكَ جميعَ ما تحبُّ وتشتهِي مِن الطعامِ والشرابِ وأصنافِ النعيمِ، فلماذا تحتاجُ إلى الزرعِ، فيقولُ إنَّه يُحبُّ ذلك فيبذرُ البذورَ في أرضِ الجنةِ، فما هي إلا أقلُّ مِن طرفةِ عينٍ فينمُو زرعُه ويتكاثرُ حتّى يصبحَ كالجبالِ، ويكونَ نمُّوه هذا بدونِ حصادٍ وسواه ممّا يحتاجُ إليهِ الزرعُ في الدنيا، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ حينَهَا خُذْ ما شئتَ، فإنّه لا يُشبعُكَ شيءٌ، وفي هذا توبيخٌ لبنِي آدمَ وأنَّهُم يحبونَ الكثرةَ ويطلبونَ المزيدِ حتّى وإنْ كانُوا في الجنةِ".(مرقاة المفاتيح للملا القاري بتصرف).
ثانيًا: صفاتُ الزارعِ المُجدِّ
للزارعِ المجدِّ صفاتٌ كثيرةٌ وعديدةٌ منها: الاستعانةُ بأهلِ الخبرةِ والاختصاصِ: حتى يكونَ هناك جودةٌ في الإنتاجِ، فعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟» قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».( مسلم). وفي ذلك يقولُ تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. (النحل: 43).
ومنها: عدمُ التعسفِ في استعمالِ الحقِّ: والتعسفُ بأنْ يمنعَ مرورَ مياهِ ريٍّ أو صرفٍ أو طريقٍ، ولا سيَّمَا إذا كان لا يضرُّهُ في شيءٍ، فقد روي" أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ , سَاقَ خَلِيجًا لَهُ مِنَ الْعُرَيْضِ، فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِمَ تَمْنَعُنِي؟ وَهُوَ لَكَ مَنْفَعَةٌ تَشْرَبُ منهِ أَوَّلاً وَآخِرًا، وَلاَ يَضُرُّكَ، فَأَبَى مُحَمَّدٌ، فَكَلَّمَ الضَّحَّاكُ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، فَدَعَا عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ، فَقَالَ: لاَ، فَقَالَ عُمَرُ: لمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ، وَهُوَ لَكَ منفِعٌة، تَشرب بِهِ أَوَّلاً وَآخِرًا، وَلاَ يَضُرُّكَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: لاَ وَاللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ، فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ".(موطأ مالك). والخليجُ مجرَى الماءِ للسقِي والشربِ.
ومنها: عدمُ التعدِّي على حدودِ الغيرِ: وهي الحدودُ الفاصلةُ بينَ الزارعِ وجيرانِهِ، فقد روى مسلمٌ عن علىٍّ رضى اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلم قال ” لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ ”. وفى رواية ” لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ “. ومعنى تغييرُ تخومِ الأرضِ أو منارِ الأرضِ: العلاماتُ ( الرُّجَمُ ) التي توضحُ حدودَ الأراضِي وممتلكاتِ الناسِ، فيأتِي أحدُهُم فينقلُ العلامةَ حتى يستفيدَ مِن أرضِ جارِهِ، فجاءَ لعنُهُ على لسانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم لأنَّهُ اقتطعَ مِن مالِ أخيهِ بغيرِ حقٍ، فمَن يغيرُ هذه العلاماتِ يُلعنُ، فما بَالُنَا بِمَن يسرقُهَا؟! لذلك قالَ صلَّى الله عليه وسلَّم:” مَن أَخَذَ شِبرًا مِن الأرضِ ظُلمًا طُوِّقه مِن سبعِ أَرَضين”.(متفق عليه).
ومنها: إخراجُ الزكاةِ: فإنَّ الزكاةَ ركنٌ وفرضٌ، وللأسفِ الكثيرُ يتهاونُ في أدائِهَا، وهذا ما حدثَ بعدَ وفاةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلم فتصدَّى لهم الخليفةُ أبو بكرٍ الصديقُ قائلًا: ” واللهِ لأقاتلنَّ مَن فرقَّ بينَ الصلاةِ والزكاةِ، فإنَّ الزكاةَ حقُّ المالِ، واللهِ لو منعونِي عقالًا كانوا يؤدُونَهُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم لقاتلتُهُم على منعِهِ”. ( متفق عليه ). والزكاةُ تجبُ في الزرعِ إذا بلغَ خمسةَ أوسقٍ فأكثر، أي حوالِي خمسينَ كيلةً بالمصرِي ( 612 كيلو جرام)، وفيه العشرُ إذا سُقِيَ بماءَ المطرِ، ونصفُ العشرِ إذا سُقِيَ بالآلةِ، ولا تُخصَمُ المصاريفُ أو الإيجارُ، بل تُخرجُ الزكاةُ مِن كلِّ الزرعِ، أمَّا المالكُ فيضمُّ الإيجارَ إلى مالِهِ ليلحقَ بزكاةِ المالِ.
ومنها: عدمُ احتكارِ الزرعِ: وهو ما يقومُ بهِ تجارُ الحبوبِ الغذائيةِ، وذلك بشرائِهَا واحتكارِهَا حتى الغلاء، ولا شكَّ أنَّ في ذلك إضرارًا بأفرادِ المجتمعِ، لذلك قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلم: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ».(مسلم).
ومنها: الموازنةُ بينَ العملِ والعبادةِ: فالعملُ عبادةٌ ولكنْ في غيرِ وقتِ العبادةِ، لأنّ اللهَ وقَّتَ الصلاةَ بوقتٍ فقالَ تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103 )، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( الجمعة : 9 – 11 ). يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ :” لَمَّا حَجَرَ اللهُ عليهم في التصرفِ بعدَ النداءِ بيعًا وشراءً وأمرَهُم بالاجتماعِ، أذنَ لهم بعدَ الفراغِ في الانتشارِ في الأرضِ والابتغاءِ من فضلِ اللهِ، كما كان عرَاكُ بنُ مالكٍ رضي اللهُ عنه إذا صلَّى الجمعةَ انصرفَ فوقفَ على بابِ المسجدِ، فقال: اللهمَّ إنّي أجبتُ دعوتَكَ، وصليتُ فريضتَكَ، وانتشرتُ كما أمرتَنِي، فارزقنِي من فضلِكَ، وأنتَ خيرُ الرازقين” أ.هـ
ثالثًا: دورُ الزراعةِ في التنميةِ الاقتصاديةِ
للزراعةِ دورٌ كبيرٌ في التنميةِ الاقتصاديةِ، حيثُ إنَّها الأساسُ في الغذاءِ لكلِّ البشرِ، قالَ تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (البقرة: 168). فجاءَ النداءُ في
الآيةِ للناسِ كافةً، لذلكَ نهَى -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن تركِ الأرضِ بورًا مِن غيرِ زرعٍ، فقالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيَمْنَحْهَا أَخَاهُ» ( مسلم). لذلك عملَ سلفُنَا الصالحُ بهذهِ الوصايا مع آخرِ رمقٍ لهُم، لإصلاحِ البلادِ والعبادِ، فهذا عثمانُ بنُ عفَّان -رضي اللهُ عنه- يقولُ وقد سُئِلَ: أتغرسُ بعدَ الكبرِ؟ فقالَ: لأنْ تُوافِينِي السَّاعةُ وأنَا مِن المصلحينَ خيرٌ مِن أنْ تُوافينِي وأنا مِن المفسدين، ويُروى أنَّ رجلًا مرَّ على أبي الدرداءِ الصحابيِّ الزاهدِ – رضي اللهُ عنه- فوجدَهُ يغرسُ جوزةً، وهو في شيخوختِهِ وهرمِهِ، فقالَ لهُ: أتغرسُ هذه الجوزةَ وأنتَ شيخٌ كبيرٌ، وهي لا تثمرُ إلَّا بعدَ كذَا وكذَا عامًا ؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَ أنْ يكونَ لي أجرُهَا ويأكلُ منهِا غيرِي!!
وكان شعارُهُم : غَرَسَ لنَا مَن قبلنَا فأكلنَا، ونحن نغرسُ ليأكلَ مَن بعدنَا.
وروي «أنَّ كسرى خرجَ يومًا يتصيدُ فوجدَ شيخًا كبيرًا يغرسُ شجرَ الزيتونِ، فوقفَ عليهِ وقالَ لهُ: يا هذا أنتَ شيخٌ هرمٌ والزيتونُ لا يثمرُ إلّا بعدَ ثلاثينَ سنةً فلِمَ تغرسهُ فقال: أيُّها الملكُ زرعَ لنَا مَن قبلَنَا فأكلنَا، فنحنُ نزرعُ لمَن بعدنَا فيأكل، فأعطاهُ كسرى ثلاثةَ آلافِ دينارٍ». (فيض القدير) .
فالزراعةُ تعملُ على التنميةِ الاقتصاديةِ للغنيِّ والفقيرِ على السواءِ، فالغنيُّ يزرعُ ويحصدُ ويعيشُ في نماءٍ وزيادةٍ، والفقيرُ يعيشُ في ظلِّ التكافلِ الإسلاميِّ والمجتمعيِّ مِن خلالِ الزكاةِ، وبذلك يحدثُ التوازنُ في المجتمعِ. فعن عليٍّ رضي اللهُ عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم : ” إنَّ اللهَ فرضَ على أغنياءِ المسلمينَ في أموالِهِم بقدرِ الذي يسعُ فقراءَهُم؛ ولن يجهدَ الفقراءُ إذا جاعُوا وعرُوا إلا بما يضيعُ أغنياؤُهم ألَا وإنَّ الله يحاسبُهُم حسابًا شديدًا ويعذبُهُم عذابًا أليمًا” (الطبراني والبيهقي موقوفًا ) . لذلك قالَ عليٌّ رضي اللهُ عنهُ – أيضًا-: ” ما رأيتُ نعمةً موفورةً إلِّا وإلى جانبِهَا حقٌّ مضيّعٌ”، وكما قالَ الشيخُ الشعراويُّ رحمه اللهُ: ” إذا رأيتَ فقيرًا في بلادِ المسلمين .. فاعلمْ أنَّ هناكَ غنيًّا سرقَ مالَهُ”؛ وقال عمرُ: “ما تمتعَ غنيٌّ إلَّا مِن جوعِ فقيرٍ”.
فضلًا عن الثوابِ الجزيلِ المُعدُّ للزارعِ مِن خلالِ الصدقةِ الجاريةِ بعدَ موتِهِ. فعَن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم: " سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ".( البزار بسند حسن). وبذلك يعمُّ الرخاءُ ليشملَ البلادَ والعبادَ والحيواناتِ والطيورَ والدواب.
نسألُ اللهَ أنْ يصبَّ علينَا الخيرَ صبًّا، وأنْ لا يجعلَ عيشنَا كدًّا .